الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
أبي بكر ابن الملك الكامل محمد على مصر وهي سنة ست وثلاثين وستمائة. على أنه ولي السلطنة في شهر رجب منها. فيها توفي محمود بن أحمد الشيخ الإمام العلامة جمال الدين الحصيري الحنفي أصله من بخارى من قرية يقال لها حصير وتفقه في بلده وسمع الحديث وبرع في علوم كثيرة وقدم الشام ودرس بالنورية وانتهت إليه رياسة الحنفية في زمانه وصنف الكتب الحسان وشرح " الجامع الكبير " وقرأ عليه الملك المعظم عيسى الجامع الكبير وغيره. وكان كثير الصدقات غزير الدمعة عاقلًا دينًا نزهًا عفيفًا وقورًا وكان المعظم يحترمه ويجله. وكانت وفاته في يوم الأحد ثامن صفر ودفن بمقابر الصوفية عند المنيبع ومات وله تسعون سنة. وفيها توفى عماد الدين عمر ابن شيخ الشيوخ محمد المنعوت بالصاحب وهو الذي كان السبب في عطاء دمشق الجواد فلما مضى إلى مصر لامه العادل على ذلك وتهدده فقال: أنا أمضي إلى دمشق وأنزل بالقلعة وأبعث بالجواد إليك وإن امتنع قمنا عليه فسار إلى دمشق فوصلها قبل مجيء الملك الصالح نجم الدين أيوب ونزل بقلعة دمشق وأمر ونهى وقال: أنا نائب العادل وأمر الجواد بالمسير إلى مصر. وكان أسد الدين صاحب حمص بدمشق فاتفق مع الجواد على قتل عماد الدين فاستدعى صاحب حمص بعض نصارى قارة وأمره بقتله فركب ابن الشيخ يومًا من القلعة بعد العصر فوثب عليه النصراني وضربه بالسكاكين حتى قتله وذلك في جمادى الأولى. ودخل الصالح أيوب دمشق فحبس النصراني أيامًا ثم أطلقه ومات عماد الدين وله ست وخمسون سنة. وفيها توفي الحافظ زكي الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف البرزالي الإشبيلي بحماه في رابع عشرين شهر رمضان ودفن بها وكان إمامًا فقيهًا محدثًا فاضلًا دينًا - رحمه الله -. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني المالكي بمكة. وصاحب ماردين ناصر الدين أرتق الأرتقي. وأبو المعالي أسعد بن المسلم بن مكي بن علان القيسي في رجب وله ست وتسعون سنة. والمحدث بدر بن أبي المعمر التبريزي في جمادى الأولى. وأبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله الهمذاني المالكي المقرىء في صفر وله تسعون سنة. والعلامة جمال الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد المجيد بن إسماعيل بن حفص الصفراوي المالكي مفتي الإسكندرية ومقرئها في شهر ربيع الآخر وله اثنتان وتسعون سنة. والشيخ عثمان القصير الزاهد. وشيخ نصيبين عسكر بن عبد الرحيم بن عسكر عن نيف وسبعين سنة. والصاحب عماد الدين عمر ابن شيخ الشيوخ صدر الدين محمد بن عمر الجويني قتيلًا بقلعة دمشق. وأبو الفضل محمد بن محمد بن الحسين بن السباك في شهر ربيع الآخر. والحافظ زكي الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن البرزالي الإشبيلي بحماة في رمضان وله ستون سنة. والعلامة جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السيد البخاري الحصيري شيخ الحنفية بدمشق في صفر وله تسعون سنة. الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى عشرة إصبعًا. السنة الثانية من سلطنة الملك العادل الصغير ابن الملك الكامل على مصر وهي سنة سبع وثلاثين وستمائة. فيها خلع الملك العادل المذكور من ملك مصر بأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب حسب ما تقدم ذكره. وفيها هجم الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك على دمشق ومعه أسد الدين شيركوه صاحب حمص وملكها في يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر. وفيها توفي الملك ناصر الدين أرتق صاحب ماردين الأرتقي كان الملك المعظم عيسى بن العادل تزوج أخته وهي التي بنت المدرسة والتربة عند الجسر الأبيض بقاسيون ولم تدفن فيها لأنها نقلت بعد موت زوجها المعظم إلى عند أبيها بماردين فماتت هناك. وكان ناصر الدين المذكور شيخًا شجاعًا شهمًا جوادًا ما قصده أحد وخيبه. قتله ولده بماردين خنقًا وهو سكران. وفيها توفي الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد بن أسد الدين شيركوه ابن شادي الأيوبي صاحب حمص أعطاه ابن عم أبيه السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب حمص بعد وفاة أبيه محمد بن شيركوه في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة فأقام بها إلى هذه السنة وحفظ المسلمين من الفرنج والعرب ومات بحمص في يوم الثلاثاء العشرين من شهر رجب ودفن بها. وفيها توفي يعقوب الخياط. كان يسكن مغارة الجوع بقاسيون. وكان شيخًا صالحًا. لقي المشايخ وعاصر الرجال ومات بقاسيون - رحمه الله تعالى -. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن الخليل الخويي في شعبان وله أربع وخمسون سنة. وأبو البقاء إسماعيل بن محمد بن يحيى المؤدب راوي مسند إسحاق في المحرم. والصدر علاء الدين أبو سعد ثابت بن محمد الخجندي بشيراز وله تسع وثمانون سنة. وأمين الدين سالم ابن الحافظ ابن صصرى في جمادى الآخرة وله ستون سنة. وصاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن شادي في رجب وكانت دولته ستًا وخمسين سنة. والقاضي أبو بكر عبد المجيد بن عبد الرشيد بن علي بن سمان الهمذاني سبط الحافظ أبي العلاء في شوال عن ثلاث وسبعين سنة. وأبو القاسم عبد الرحيم بن يوسف بن هبة الله بن الطفيل في ذي الحجة. وإمام الربوة عبد العزيز بن دلف المقرىء الناسخ في صفر. وأبو الحسن علي بن أحمد الأندلسي الحراني الصوفي المفسر بحماة. وشمس الدين محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الكريم الكاتب بدمشق في رجب. والحافظ أبو عبد الله محمد بن سعيد بن يحيى في شهر ربيع الآخر وله تسع وسبعون سنة. وتقي الدين محمد بن طرخان السلمي الصالحي في المحرم وله ست وسبعون سنة. وأبو طالب محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أحمد بن علي بن صابر السلمي الزاهد في المحرم. والمحتسب رشيد الدين أبو الفضل محمد بن عبد الكريم بن الهادي التنسي في جمادى الآخرة وله ثمان وثمانون سنة. والصاحب شرف الدين أبو البركات المبارك بن أحمد المستوفي بالموصل في المحرم. والصاحب ضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم ابن عبد الواحد المعروف بابن الأثير الشيباني الجزري الكاتب مؤلف كتاب " المثل السائر " في شهر ربيع الآخر وله نحو من ثمانين سنة. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وثماني أصابع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا. سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب على مصر هو السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي الأيوبي سلطان الديار المصرية. وقد تقدم أن الملك الصالح هذا ولي الشرق وديار بكر في أيام والده الملك الكامل سنين وذكرنا أيضًا ما وقع له بعد موت الكامل مع أخيه العادل ومع ابن عمه الملك الناصر داود وغيرهما في ترجمة أخيه العادل مفصلًا إلى أن ملك الديار المصرية في يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة سبع وثلاثين وستمائة. ومولده بالقاهرة في سنة ثلاث وستمائة وبها نشأ واستخلفه أبوه على مصر لما توجه إلى الشرق فأقام الصالح هذا بمصر مع صواب الخادم لا أمر له ولا نهي إلى أن عاد أبوه الكامل إلى الديار المصرية وأعطاه حصن كيفا فتوجه إليها ووقع له بها أمور ووقائع مع ملوك الشرق بتلك البلاد في حياة والده حتى مات أبوه ووقع له ما حكيناه إلى أن ملك مصر ولما تم أمره بمصر أصلح أمورها ومهد قواعدها. قلت: والملك الصالح هذا هو الذي أنشأ المماليك الأتراك وأمرهم بديار مصر وفي هذا المعنى يقول بعضهم: الصالح المرتضى أيوب أكثر من تركٍ بدولته يا شر مجلوب ًلا آخذ الله أيوبًا بفعلته فالناس كلهم في ضر أيوب وقال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي في تاريخه - بعد أن ذكر من مبدأ أمره نبذة إلى أن قال -: " ثم ملك مصر بلا كلفة واعتقل أخاه ثم جهز من أوهم الناصر بأن الصالح في نية القبض عليه فخاف وغضب فأسرع إلى الكرك. ثم تحقق الصالح فساد نيات الأشرفية وأنهم يريدون الوثوب عليه فأخذ في تفريقهم والقبض عليهم فبعث مقدم الأشرفية وكبيرهم يبك الأشقر نائبًا على جهة ثم سير من قبض عليه ثم مسكهم عن بكرة أبيهم وسجنهم وأقبل على شراء المماليك الترك والخطائية واستخدم الأجنادة ثم قبض على أكبر الخدام: شمس الدين الخاص وجوهر النوبي وعلى جماعة من الأمراء الكاملية وسجنهم بقلعة صدر بالقرب من أيلة وأخرج فخر الدين ابن الشيخ من سجن العادل فركب ركبة عظيمة ودعت له الرعية لكرمه وحسن سيرته فلم يعجب الصالح ذلك وتخيل فأمره بلزوم بيته: واستوزر أخاه معين الدين. ثم شرع يؤمر غلمانه يعني مماليكه فأكثر من ذلك وأخذ في بناء قلعة الجزيرة واتخذها سكنًا وأنفق عليها أموالًا عظيمة وكانت الجزيرة قبلًا متنزها لوالده فشيدها في ثلاثة أعوام وتحول إليها. وأما الناصر داود فإنه اتفق مع عمه الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص فاتفقوا على الصالح أيوب. وأما الخوارزمية فإنهم تغلبوا على عدة قلاع وعادوا وخربوا البلاد وكانوا شرًا من التتار لا وفي سنة إحدى وأربعين وقع الصلح بين الصالحين والمنصور صاحب حمص على أن تكون دمشق للصالح إسماعيل وأن يقيم هو والحلبيون والحمصيون الخطبة في بلادهم لصاحب مصر وأن يخرج ولد الملك الصالح أيوب الملك المغيث من اعتقال الملك الصالح إسماعيل - والملك المغيث هو ابن الملك الصالح نجم الدين كان معتقلًا قبل سلطنته في واقعة جرت. قلت: يعني أن الصالح قبض عليه لما ملك دمشق بعد خروج الصالح من دمشق قاصدًا الديار المصرية قبل أن يقبض عليه الناصر داود وقد ذكرنا ذلك كله في ترجمة العادل مفصلًا. قلت وكذلك أطلق أصحاب الصالح مثل حسام الدين بن أبي علي ومجير الدين بن أبي ذكرى فأطلقهم الملك الصالح إسماعيل -. وركب الملك المغيث وبقي يسير ويرجع إلى القلعة ورد على حسام الدين ما أخذ منه. ثم ساروا إلى مصر واتفق الملوك على عداوة الناصر داود وجهز الصالح إسماعيل عسكرًا يحاصرون عجلون وهي للناصر وخطب لصاحب مصر في بلاده وبقي عنده المغيث حتى تأتيه نسخ الأيمان ثم بطل ذلك كله. وقال ابن واصل: فحدثني جلال الدين الخلاطي قال: كنت رسولًا من جهة الصالح إسماعيل فورد علي منه كتاب وفي طيه كتاب من الصالح نجم الدين إلى الخوارزمية يحثهم على الحركة ويعلمهم أنه إنما صالح عمه الصالح ليخلص ابنه المغيث من يده وأنه باق على عداوته ولا بد له من أخذ دمشق منه فمضيت بهذا الكتاب إلى الصاحب معين الدين فأوقفته عليه فما أبدى عنه عذرًا يسوغ. ورد الصالح إسماعيل المغيث بن الصالح نجم الدين إلى الاعتقال وقطع الخطبة ورد عسكره عن عجلون وأرسل إلى الناصر داود واتفق معه على عداوة صاحب مصر وكذلك رجع صاحب حلب وصاحب حمص عنه وصاروا كلمة واحدة عليه واعتقلت رسلهم بمصر واعتضد صاحب دمشق بالفرنج وسلم إليهم القدس وطبرية وعسقلان. وتجهز صاحب مصر الملك الصالح هذا لقتالهم وجهز البعوث وجاءته الخوارزمية فساقوا إلى غزة واجتمعوا بالمصريين وعليهم ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي. قلت: وبيبرس هذا هو غير بيبرس البندقداري الظاهري وإنما هذا أيضًا على اسمه وشهرته وهذا أكبر من الظاهر بيبرس وأقدم وقبض عليه الملك الصالح بعد ذلك وأعدمه. انتهى. قال ابن واصل: وتسلم الفرنج حرم القدس وغيره وعمروا قلعتي طبرية وعسقلان وحصنوهما ووعدهم الصالح إسماعيل بأنه إذا ملك مصر أعطاهم بعضها فتجمعوا وحشدوا وسارت عساكر الشام إلى غزة ومضى المنصور صاحب حمص بنفسه إلى عكا وطلبها فأجابوه. قال: وسافرت أنا إلى مصر ودخلت القدس فرأيت الرهبان على الصخرة وعليها قناني الخمر ورأيت الجرس في المسجد الأقصى وأبطل الأذان بالحرم وأعلن الكفر. وقدم - وأنا بالمقدس - الناصر داود إلى القدس فنزل بغربيه. وفيها ولى الصالح نجم الدين قضاء مصر للأفضل بعد أن عزل ابن عبد السلام نفسه بمديدة. ولما عدت الخوارزامية الفرات وكانوا أكثر من عشرة آلاف ما مروا بشيء إلا نهبوه وتقهقر الذين بغزة منهم وطلع الناصر إلى الكرك وهربت الفرنج من القدس فهجمت الخوارزمية على القدس وقتلوا من به من النصارى وهدموا مقبرة القمامة وجمعوا بها عظام الموتى فحرقوها ونزلوا بغزة وراسلوا صاحب مصر يعني الملك الصالح هذا فبعث إليهم بالخلع والأموال وجاءتهم العساكر وسار الأمير حسام الدين بن أبي علي بعسكر ليكون مركزًا بنابلس وتقدم المنصور إبراهيم على الشاميين يعني لقتال المصريين وكان شهمًا شجاعًا قد انتصر على الخوارزامية غير مرة وسار بهم ورافقته الفرنج من عكا وغيرها بالفارس والراجل ونفذ الناصر داود عسكرًا فوقع المصاب بظاهر غزة فانكسر المنصور إبراهيم شر كسرة. وأخذت سيوف المسلمين الفرنج فأفنوهم قتلًا وأسرًا ولم يفلت منهم إلا الشارد وأسر أيضًا من عسكر دمشق والكرك جماعة من المقدمين. قال ابن واصل: حكي لي عن المنصور أنه قال: والله لقد قصرت ذلك اليوم ووقع في قلبي أنه لا ننتصر لانتصارنا بالفرنج - قلت: عليه من الله ما يستحقه من الخزي. وإيش يفيد تقصيره بعد أن صار هو والفرنج يدًا واحدة على المسلمين! - قال: ووصلت عسكر دمشق معه في أسوأ حال. وأما مصر فزينت زينة لم ير مثلها وضربت البشائر ودخلت أسارى الشام الفرنج والأمراء وكان يومًا مشهودًا بالقاهرة. ثم عطف حسام الدين بن أبي علي وركن الدين بيبرس فنازلوا عسقلان وحاصروها وبها الفرنج الذين تسلموها فجرج حسام الدين وامتنعت عليهم عسقلان لحصانتها " ثم ترحلوا إلى نابلس وحكموا على فلسطين والأغوار إلا عجلون فهي بيد سيف الدين بن قليج نيابة عن الناصر داود. ثم بعث السلطان الملك الصالح نجم الدين ابن الشيخ على جيشه وأقامه مقام نفسه وأنفذ معه الخزائن وحكمه في الأمور وسار إلى الشام ومعه الخوارزمية فنالوا دمشق وبها الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص فذل الصالح إسماعيل وبعث وزيره أمين الدولة مستشفعًا بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه الملك نجم الدين فلم يظفر بطائل ورجع واشتد الحصار على دمشق وأخذت بالأمان لقلة من مع صاحبها ولعدم الميرة بالقلعة ولتخلي الحلبيين عنه فترحل ولما رأت الخوارزمية أن السلطان قد تملك الشام بهم وهزم أعداءه صار لهم عليه إدلال كثير مع ما تقدم من نصرهم له على صاحب الموصل قبل سلطنته وهو بسنجار فطمعوا في الأخبار العظيمة فلما لم يحصلوا على شيء فسدت نيتهم له وخرجوا عليه وكاتبوا الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وهو أكبر أمراء الصالح نجم الدين أيوب وكان بغزة فأصغى إليهم - فيما قيل - وراسلوا صاحب الكرك فنزل إليهم ووافقهم. وكانت أمه أيضًا خوارزمية وتزوج منهم ثم طلع إلى الكرك واستولى حينئذ على القدس ونابلس وتلك الناحية وهرب منه نواب صاحب مصرة ثم راسلت الخوارزمية الملك الصالح إسماعيل وهو في بعلبك وحلفوا له فسار إليهم واتفقت كلمة الجميع على حرب الصالح صاحب مصر فقلق الصالح لذلك وطلب ركن الدين بيبرس فقدم مصر فاعتقله وكان آخر العهد به. ثم خرج بعساكره فخيم بالعباسة وكان قد نفذ رسوله إلى الخليفة المستعصم يطلب تقليدًا بمصر والشام أو الشرق فجاءه التشريف والطوق الذهب والمركوب فلبس التشريف الأسود والعمامة والجبة وركب الفرس بالحلية الكاملة وكان يومًا مشهودًا ثم جاء الصالح والخوارزمية ونازلوا دمشق وليس بها كبير عسكر وبالقلعة الطواشي رشيد وبالبلد نائبها حسام الدين بن أبي علي الهذباني فضبطها وقام بحفظها بنفسه ليلًا ونهارًا واشتد بها الغلاء وهلك أهلها جوعًا ووباء. قال: وبلغني أن رجلًا مات في الحبس فأكلوه كذلك حدثني حسام الدين بن أبي علي فعند ذلك اتفق عسكر حلب والمنصور صاحب حمص على حرب الخوارزمية وقصدوهم فتركوا حصار دمشق وساقوا أيضًا يقصدونهم فالتقى الجمعان ووقع المصاف في أول سنة أربع وأربعين على القصب وهي منزلة بريد من حمص من قبليها فاشتد القتال والصالح إسماعيل مع الخوارزمية فانكسروا عندما قتل مقدمهم حسام الدين بركة خان وانهزموا ولم تقم لهم بعدها قائمة وقتل بركة خان مملوك من الحلبيين وتشتتت الخوارزمية وخدم طائفة منهم بالشام وطائفة بمصر وطائفة مع كشلوخان ذهبوا إلى التتار وخدموا معهم وكفى الله شرهم. وعلق رأس بركة خان على قلعة حلب. ووصل الخبر إلى القاهرة فزينت وحصل الصلح التام بين السلطان يعني الصالح نجم الدين أيوب وبين صاحب حمص والحلبيين. وأما الصالح إسماعيل فإنه التجأ إلى ابن أخته الملك الناصر صلاح الدين صاحب حلب. وأما نائب دمشق حسام الدين فإنه سار إلى بعلبك وحاصرها وبها أولاد الصالح إسماعيل فسلموها بالأمان ثم أرسلوا إلى مصر تحت الحوطة هم والوزير أمين الدولة والأستادار ناصر الدين بن يغمور فاعتقلوا بمصر. وصفت البلاد للملك الصالح. وبقي الملك الناصر داود بالكرك في حكم المحصور ثم رضي السلطان على فخر الدين ابن الشيخ وأخرجه من الحبس بعد موت أخيه الوزير معين الدين وسيره إلى الشام واستولى على جميع بلاد الناصر داود وخرب ضياع الكرك ثم نازلها أيامًا وقل ما عند الناصر من المال والذخائر وقل ناصره فعمل قصيدة يعاتب فيها السلطان فيما له عنده من اليد من الذب عنه وتمليكه ديار مصر وهي: قل للذي قاسمته ملك اليد ونهضت فيه نهضة المستأسد عاصيت فيه ذوي الحجى من أسرتي وأطعت فيه مكارمي وتوددي يا قاطع الرحم التي صلتي بها كتبت على الفلك الأثير بعسجد إن كنت تقدح في صريح مناسبي فاصبر بعزمك للهيب المرصد عمي أبوك ووالدي عم به يعلو انتسابك كل ملك أصيد صالًا وجالًا كالأسود ضواريا فارتد تيار الفرات المزبد دع سيف مقولي البليغ يذب عن أعراضكم بفرنده المتوقد فهو الذي قد صاغ تاج فخاركم بمفضل من لؤلؤ وزبرجد ثم أخذ يصف نفسه وجوده ومحاسنه وسؤدده إلى أن قال: يا محرجي بالقول والله الذي خضعت لعزته جباه السجد والله يابن العم لولا خيفتي لرميت ثغرك بالعداة المرد لكنني ممن يخاف حرامه ندمًا يجرعني سمام الأسود فأراك ربك بالهدى ما ترتجي لنراك تفعل كل فعل مرشد لتعيد وجه الملك طلقًا ضاحكًا وترد شمل البيت غير مبدد كي لا ترى الأيام فينا فرصة للخارجين وضحكة للحسد لا زال هذا البيت مرتفع البنا يزهى بعد آخر أمجد قال: ثم إن السلطان طلب الأمير حسام الدين بن أبي علي وولاه نيابة الديار المصرية واستناب على دمشق الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح ثم قدم الشام وجاء إلى خدمته صاحب حماة الملك المنصور وهو ابن اثنتي عشرة سنة وصاحب حمص وهو صغيرًا فأكرمهما وقربهما ووصل إلى بعلبك ثم رد إلى الشام ثم رجع السلطان ومرض في الطريق. قال ابن واصل: حكى لي الأمير حسام الدين قال: لما ودعني السلطان قال: إني مسافر وأخاف أن يعرض لي موت وأخي العادل بقلعة مصر فيأخذ البلاد وما يجري عليكم منه خير فإن مرضت - ولو أنه حمى يوم - فأعدمه فإنه لا خير فيه وولدي توران شاه لا يصلح للملك فإن بلغك موتي فلا تسلم البلاد لأحد من أهلي بل سلمها للخليفة. انتهى. قال: ودخل السلطان مصر وصرف حسام الدين عن نيابة مصر بجمال الدين ابن يغمور وبعث الحسام بالمصريين إلى الشام فأقاموا بالصالحية أربعة أشهر. قال ابن واصل: وأقمت مع حسام الدين هذه المدة وكان السلطان في هذه المدة وقبلها مقيمًا بأشمون طناح. ثم في السنة خرج الحلبيون وعليهم شمس الدين لؤلؤ الأميني فنازلوا حمص ومعهم الملك الصالح إسماعيل يرجعون إلى رأيه فحاصرها شهرين ولم ينجدها صاحب مصرة وكان السلطان مشغولًا بمرض عرض له في بيضه ثم فتح وحصل منه ناسور بعسر بولٍ وحصلت له في رئته بعض قرحة متلفة لكنه عازم على إنجاد صاحب حمص. ولما اشتد الحصار بالأشرف صاحب حمص اضطر إلى أن أذعن بالصلح وطلب العوض عن حمص تل باشر مضافًا إلى ما بيده وهو الرحبة وتدمر فتسلمها الأمير شمس الدين لؤلؤ الاميني وأقام بها نوابًا لصاحب حلب. فلما بلغ السلطان أخذ حمص وهو مريض غضب وعظم عليه وترحل إلى القاهرة فاستناب بها ابن يغمور وبعث الجيوش إلى الشام لاستنقاذ حمص. وسار السلطان في محفة وذلك في سنة ست وأربعين وستمائة فنزل بقلعة دمشق وبعث جيشه فنازلوا حمص ونصبوا عليها المجانيق منها منجنيق مغربي ذكر الأمير حسام الدين أنه كان يرمي حجرًا زنتة مائة وأربعون رطلًا بالدمشقي ونصب عليها قرابغا اثني عشر منجنيقًا سلطانية وذلك في الشتاء. وخرج صاحب حلب بعسكره فنزل بأرض كفر طاب ودام الحصار إلى أن قم البادرائي للصلح بين صاحب حلب والسلطان على أن تقر حمص بيد صاحب حلب فوقع الاتفاق على ذلك وترحل السلطان عن حمص لمرض السلطان ولأن الفرنج تحركوا وقصدوا مصر وترحل السلطان إلى الديار المصرية كذلك وهو في محفة. وكان الناصر صاحب الكرك قد بعث شمس الدين الخسروشاهي إلى السلطان وهو بدمشق يطلب خبزًا بمصر والشوبك وينزل له عن الكرك فبعث السلطان تاج الدين بن مهاجر في إبرام ذلك إلى الناصر فرجع عن ذلك لما سمع حركة الفرنج وطلب السلطان نائب مصر جمال الدين بن يغمور فاستنابه بدمشق وبعث على نيابة مصر حسام الدين بن أبي علي فدخلها في المحرم سنة سبع وأربعين وسار السلطان فنزل بأشموم طناح ليكون في مقابلة الفرنج إن قصدوا دمياط. وتواترت الأخبار بأن ريدا فرنس مقدم الأفرنسيسية قد خرج من بلاده في جموع عظيمة وشتى بجزيرة قبرص وكان من أعظم ملوك الفرنج وأشدهم بأسًا - وريدا بلسانهم: الملك - فشحنت دمياط بالذخائر وأحكمت الشواني ونزل فخر الدين ابن الشيخ بالعساكر على جزيرة دمياط فأقبلت مراكب الفرنج فأرست في البحر بإزاء المسلمين في صفر من السنة. ثم شرعوا من الغد في النزول إلى البر الذي فيه المسلمون وضربت خيمة حمراء لريدا فرنس وناوشهم المسلمون القتال فقتل يومئذ الأمير نجم الدين ابن شيخ الإسلام والأمير الوزيري - رحمهما الله تعالى - فترحل فخر الدين ابن الشيخ بالناس وقطع بهم الجسر إلى البر الشرقي الذي فيه دمياط وتقهقر إلى أشمون طناح ووقع الخذلان على أهل دمياط فخرجوا منها طول الليل على وجوههم حتى لم يبق بها أحد وكان هذا من قبيح رأي فخر الدين فإن دمياط كانت في نوبة سنة خمس عشرة وستمائة أقل ذخائر وعددًا وما قدر عليها الفرنج إلا بعد سنة وإنما هرب أهلها لما رأوا هرب العسكر وضعف السلطان فلما أصبحت الفرنج ملكوها صفوًا بما حوت من العدد والأسلحة والذخائر والغلال والمجانيق وهذه مصيبة لم يجر مثلها! فلما وصلت العساكر وأهل دمياط إلى السلطان حنق على الشجعان الذين كانوا بها وأمر بهم فشنقوا جميعًا ثم رحل بالجيش وسار إلى المنصورة فنزل بها في المنزلة التي كان أبوه نزلها وبها قصر بناه أبوه الكامل. ووقع النفير العام في المسلمين فاجتمع بالمنصورة أمم لا يحصون من المطوعة والعربان وشرعوا في الإغارة على الفرنج ومناوشتهم وتخطفهم واستمر ذلك أشهرًا والسلطان يتزايد مرضه والأطباء قد آيسته لاستحكام المرض به. وأما صاحب الكرك يعني الملك الناصر داود فإنه سافر إلى بغداد فاختلف أولاده فسار أحدهم إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب وسلم إليه الكرك ففرح بها مع ما فيه من الأمراض وزينت بلاده وبعث إليها بالطواشي بدر الدين الصوابي نائبًا. وقدم عليه أولاد الناصر داود فبالغ الملك الصالح في إكرامهم وأقطعهم أخبازًا جليلة. ولم يزل يتزايد به المرض إلى أن مات وأخفي موته على ما سيأتي ذكره. إن شاء الله تعالى. قال ابن واصل في سيرة الملك نجم الدين أيوب هذا: وكان مهيبًا عزيز النفس عفيفًا طاهر اللسان والذيل لا يرى الهزل ولا العبث شديد الوقار كثير الصمت اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتى صاروا معظم عسكره ورجحهم على الأكراد وأمرهم واشترى وهو بمصر خلقًا منهم وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه وسماهم " البحرية ". حكى لي حسام الدين بن أبي علي: أن هؤلاء المماليك مع فرط جبروتهم وسطوتهم كانوا أبلغ من يعظم هيبته كان إذا خرج وشاهدوا صورته يرعدون خوفًا منه وأنه لم يقع منه في حال غضبه كلمة قبيحة قط أكثر ما يقول إذا شتم: يا متخلف وكان كثير الباه بجواريه فقط ولم يكن عنده في آخر وقت غير زوجتين: إحداهما شجرة الدر والأخرى بنت العالمة تزوجها بعد مملوكه الجوكندار وكان إذا سمع الغناء لا يتزعزع ولا يتحرك وكذلك الحاضرون يلتزمون حالته كأنما على رؤوسهم الطيرة وكأن لا يستقل أحدًا من أرباب دولته بأمر بل يراجعون القصص مع الخدام فيوقع عليها بما يعتمده كتاب الإنشاء وكان يحب أهل الفضل والدين وما كان له ميل لمطالعة الكتب وكان كثير العزلة والانفراد وله نهمة باللعب بالصوالجة وفي إنشاء الأبنية العظيمة الفاخرة. انتهى كلام ابن واصل. وقال غيره: وكان ملكًا مهيبًا جبارًا ذا سطوة وجلالة وكان فصيحًا حسن المحاورة عفيفًا عن الفواحش أمر مماليكه الترك وجرى بينه وبين عمه الملك الصالح أمور وحروب إلى أن أخذ نقابة دمشق عام ثلاثة وأربعين وذهب إسماعيل إلى بعلبك ثم أخذت من إسماعيل بعلبك وتعثر والتجأ إلى ابن أخته الناصر صاحب حلب. ولما خرج الملك الصالح هذا من مصر إلى الشام خاف من بقاء أخيه الملك العادل فقتله سرًا ولم يتمتع بعده ووقعت الأكلة في فخذه بدمشق. ونزل الأفرنس ملك الفرنج بجيوشه على دمياط فأخذها فسار إليه الملك الصالح في محفة حتى نزل المنصورة عليلًا ثم عرض له إسهال إلى أن مات في ليلة النصف من شعبان بالمنصورة وأخفي موته حتى أحضروا ولده الملك المعظم توران شاه من حصن كيفا وملكوه. وقال سعد الدين: إن ابن عمه فخر الدين نائب السلطنة أمر بتحليف الناس لولده الملك المعظم توران شاه ولولي عهده فخر الدين فتقرر ذلك وطلبوا الناس فحضروا وحلفوا إلا أولاد الناصر داود صاحب الكرك توقفوا وقالوا: نشتهي أن نبصر السلطان فدخل خادم وخرج وقال: السلطان يسلم عليكم وقال: ما يشتهي أن تروه في هذه الحالة وقد رسم لكم أن تحلفوا. فحلفوا وكان للسلطان مدة من وفاته ولا يعلم به أحد وزوجته شجرة الدر توقع مثل خطه على التواقيع - على ما يأتي ذكره - ولما حلف أولاد الناصر صاحب الكرك جاءتهم المصيبة من كل ناحية لأن الكرك راحت من يدهم واسودت وجوههم عند أبيهم ومات الملك الصالح الذي أفلوه وأعطوه الكرك ثم عقيب ذلك نفوهم من مصر. ثم إن الأمير فخر الدين نفذ نسخة الأيمان إلى البلاد ثم كل ذلك والسلطان لم يظهر موته. قال: وكانت أم ولده شجرة الدر ذات رأي وشهامة فدبرت أمر الملك الصالح وأخفت موته. وهي التي وليت الملك مدة شهرين بعد ذلك وخطب لها على المنابر بمصر وغيرها - على ما يأتي ذكر ذلك في محله إن شاء الله تعالى. ثم ملك بعدها الأتراك إلى يومنا هذا. انتهى. وقال الشيخ شمس الدين يوسف بن قزأرغلي في تاريخه مرآة الزمان - بعد ما ذكر اسم الملك الصالح ومولده قال -: ولما ملك مصر اجتهد في خلاص ولده المغيث فلم يقدر. قلت يعني المغيث الذي كان حبسه الملك الصالح إسماعيك بقلعة دمشق في مبادئ أمر الملك الصالح. قال: وكان مهيبًا هيبته عظيمة جبارًا أباد الأشرفية وغيرهم. وقال جماعة من أمرائه: والله ما نقعد على بابه إلا ونقول من هاهنا نحمل إلى الحبوس وكان إذا حبس إنسانًا نسيه ولا يتجاسر أحد أن يخاطبه فيه وكان يحلف أنه ما قتل نفسًا بغير حق. قال صاحب المرآة: وهذه مكابرة وغيرهم ولو لم يكن إلا قتل أخيه العادل لكفى. قال: وكانت عشيقته شجرة الدر تكتب خطًا يشبه خطه فكانت تعلم على التواقيع وكان قد نسر مخرج السلطان وامتد إلى فخذه اليمنى ورجله ونحل جسمه وعملت له محفة يركب فيها وكان يتجلد ولا يطلع أحد على حاله ولما مات حمل تابوته إلى الجزيرة فعلق بسلاسل حتى قبر في تربته إلى جانب مدرسته بالقاهرة. قلت: وذكر القطب اليونيني في كتابه الذيل على مرآة الزمان قال في ترجمة البهاء زهير كاتب الملك الصالح قال: فلما خرج الملك الصالح بالكرك من الاعتقال وسار إلى الديار المصرية كان بهاء الدين زهير المذكور في صحبته وأقام عنده في أعلى المنازل وأجل المراتب وهو المشار إليه في كتاب المرج والمقدم عليهم وأكثرهم اختصاصًا بالملك الصالح واجتماعًا به. وسيره رسولًا في سنة خمس وأربعين وستمائة إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب يطلب منه إنفاذ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل إليه فلم يجب إلى ذلك وأنكر الناصر هذه الرسالة غاية الإنكار وأعظمها واستصعبها وقال: كيف يسعني أن أسير عمه إليه وهو خال أبي وكبير البيت الأيوبي حتى يقتله وقد استجار بي! والله هذا شيء لا أفعله أبدًا. ورجع البهاء زهير إلى الملك الصالح نجم الدين بهذا الجواب فعظم عليه وسكت على ما في نفسه من الحنق. وقبل موت الملك الصالح نجم الدين أيوب بمديدة يسيرة - وهو نازل على المنصورة - تغير على بهاء الدين زهير وأبعده لأمر لم يطلع عليه أحد. قال: حكى لي البهاء أن سبب تغيره عليه أنه كتب عن الملك الصالح كتابًا إلى الملك الناصر داود صاحب الكرك وأدخل الكتاب إلى الملك الصالح ليعلم عليه على العادة فلما وقف عليه الملك الصالح كتب بخطه بين الأسطر: " أنت تعرف قلة عقل ابن عمي وأنه يحب من يعظمه ويعطيه من يده فاكتب له غير هذا الكتاب ما يعجبه " وسير الكتاب إلى البهاء زهير ليغيره والبهاء زهير مشغول فأعطاه لفخر الدين إبراهيم بن لقمان وأمره بختمه فختمه وجهزه إلى الناصر على يد نجاب ولم يتأمله فسافر به النجاب لوقته واستبطأ الملك الصالح عود الكتاب إليه ليعلم عليه ثم سأل عنه بهاء الدين زهير بعد ذلك وقال له: ما وقفت على ما كتبته بخطي بين الأسطر. قال البهاء زهير: ومن يجسر أن يقف على ما كتبه السلطان بخطه إلى ابن عمه! وأخبره أنه سير الكتاب مع النجاب فقامت قيامة السلطان وسيروا في طلب النجاب فلم يدركوه ووصل الكتاب إلى الملك الناصر بانكرك فعظم عليه وتألم له ثم كتب جوابه إلى الملك الصالح وهو يعتب فيه العتب المؤلم ويقول له فيه: والله ما بي ما يصدر منك في حقي وإنما بي اطلاع كتابك على مثل هذا! فعز ذلك على الملك الصالح وغضب على بهاء الدين زهير وبهاء الدين لكثرة مروءته نسب ذلك إلى نفسه ولم ينسبه لكاتب الكتاب وهو فخر الدين بن لقمان - رحمه الله تعالى -. قال: وكان الملك الصالح كثير التخيل والغضب والمؤاخذة على الذنب الصغير والمعاقبة على الوهم لا يقبل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يرعى سالف خدمة والسيئة عنده لا تعذر والتوسل إليه لا يقبل والشفائع لديه لا تؤثر فلا يزداد بهذه الأمور التي تسل سخائم الصدور إلا انتقامًا. وكان ملكًا جبارًا متكبرًا شديد السطوة كثير التجبر والتعاظم على أصحابه وندمائه وخواصه ثقيل الوطفة لا جرم أن الله تعالى قصر مدة ملكه وابتلاه بأمراض عدم فيها صبره. وقتل مماليكه ولده توران شاه من بعده لكنه كان عنده سياسة حسنة ومهابة عظيمة وسعة صدر في إعطاء العساكر والإنفاق في مهمات الدولة لا يتوقف فيما يخرجه في هذا الوجه وكانت همته عالية جدًا وآماله بعيدة ونفسه تحدثه بالاستيلاء على الدنيا بأسرها والتغلب عليها وانتزاعها من يد ملوكها حتى لقد حدثته نفسه بالاستيلاء على بغداد والعراق وكان لا يمكن القوي من الضعيف وينصف المشروف - من الشريف وهو أول من استكثر من المماليك من ملوك البيت الأيوبي ثم اقتدوا به لما آل الملك إليهم. قلت: ومن ولي مصر بعد الصالح من بني أيوب حتى اقتنى المماليك! هو آخر ملوك مصر ولا عبرة بولاية ولده الملك المعظم توران شاه اللهم إن كان الذي بالبلاد الشامية فيمكن وأما بمصر فلا. وكانت ولايته بمصر تسع سنين وسبعة أشهر وعشرين يومًا لأنه ولي السلطنة في عشرين ذي الحجة سنة سبع وثلاثين ومات في نصف شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة. انتهى. قال: ولما مات الملك الصالح نجم الدين لم يحزن لموته إلا القليل مع ما كان الناس فيه من قصد الفرنج الديار المصرية واستيلائهم على قلعة منها ومع هذا سر معظم الناس بموته حتى خواصه فإنهم لم يكونوا يأمنون سطوته ولا يقدرون على الاحتراز منه. قال: ولم يكن في خلقه الميل لأحد من أصحابه ولا أهله ولا أولاده ولا المحبة لهم ولا الحنو عليهم على ما جرت به العادة. وكان يلازم في خلواته ومجالس أنسه من الناموس ما يلازمه إذا كان جالسًا في دست السلطنة. وكان عفيف الذيل طاهر اللسان قليل الفحش في حال غضبه ينتقم بالفعل لا بالقول - رحمه الله تعالى -. انتهى ما أوردناه في ترجمة الملك الصالح من أقوال جماعة كثيرة من المؤرخين ممن عاصره وبعدهم فمنهم من شكر ومنهم من أنكر. قلت: وهذا شأن الناس في أفعال ملوكهم والحاكم أحد الخصمين غضبان منه إذا حكم بالحق فكيف السلطان! وفي الجملة هو عنده أعظم ملوك بني أيوب وأجلهم وأحسنهم رأيًا وتدبيرًا ومهابة وشجاعة وسؤددًا بعد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو أخو جده الملك العادل أبي بكر بن أيوب ولو لم يكن من محاسنه إلا تجلده على مقابلة العدو بالمنصورة وهو بتلك الأمراض المزمنة المذكورة وموته على الجهاد والذب عن المسلمين. - والله يرحمه. ما كان أصبره وأغزر مروءته! ولما مات رثاه الشعراء بعدة مراثٍ. وأما مدائحه فكثيرة من ذلك ما قاله فيه كاتبه وشاعره بهاء الدين زهير من قصيدته التي أولها: وعد الزيارة طرفه المتملق وبلاء قلبي من جفونٍ تنطق إني لأهوى الحسن حيث وجدته وأهيم بالقد الرشيق وأعشق يا عاذلي أنا من سمعت حديثه فعساك تحنو أو لعلك ترفق لو كنت منا حيث تسمع أو ترى لرأيت ثوب الصبر كيف يمزق ورأيت ألطف عاشقين تشاكيًا وعجبت ممن لا يحب ويعشق أيسومني العذال عنه تصبرًا وحياته قلبي أرق وأشفق إن عنفوا أو سوفوا أو خوفوا لا أنتهي لا أنثني لا أفرق أبدًا أزيد مع الوصال تلهفًا كالعقد في جيد المليحة يقلق وأذاع أني قد سلوتك معشر يا رب لا عاشوا لذاك ولا بقوا ما أطمع العذال إلا أنني خوفًا عليك إليهم أتملق وإذا وعدت الطيف منك بهجعةٍ فاشهد علي بأنني لا أصدق فعلام قلبك ليس بالقلب الذي قد كان لي منه المحب المشفق وأظن قدك شامتًا لفراقنا فلقد نظرت إليه وهو مخلق ولقد سعيت إلى العلا بعزيمةٍ فقضى لسعيي أنه لا يحقق وسريت في ليلٍ كأن نجومه من فرط غيرتها إلي تحدق حتى وصلت سرادق الملك الذي تقف الملوك ببابه تسترزق ووقفت من ملك الزمان بموقفٍ ألفيت قلب الدهر منه يخفق فإليك يا نجم السماء فإنني قد لاح نجم الدين لي يتألق الصالح الملك الذي لزمانه حسن يتيه به الزمان ورونق ملك تحدث عن أبيه وجده نسب لعمري في العلا لا يلحق
|